الهول ومابعده
عمر إبراهيم نعمي
ملاحظة قبل القراءة:
(كل ما تم ذكره في النص حقيقي، مع التحفظ على بعض المواقف التي اعتذر
أصحابها ان يتكلموا بها واحترمت قرارهم.
ما تم تسطيره هو غيض من فيض، فالأمثال أكثر من أن تحصى لكنه انموذج).
حرصت أن يكون الخطاب بأسلوب المخاطب، ولسان ام سيف للتنويع ليس أكثر.
ترعى (أم سيف) أولادها الثلاثة بعد مقتل والدهم المنتمي الى تنظيم داعش،
وتتخذ من مخيم الهول في الأراضي السورية محطة ظنت لأول وهلة أنها ستكون مؤقتة،
لكنها أدركت مؤخرا أن المكوث في ظل هذه الأجواء مفتوح المدة الزمنية إذ الخروج منه
مجهول.
لا إيمان يستقر في فؤاد أم سيف يتعلق بالتطرف والغلو، فطبيعة ملابسها كانت
متوازنة، حيث لا غطاء على الوجه وما شاكله، بيد أن مشكلتها هي مشكلة أية امرأة
شرقية تكون تبعاً لزوجها.
ليس هذا حال (أم سيف) وحدها بل المئات من النساء يحملن قصصاً متشابهة، وقد
تختلف تفصيلاتها الجزئية من حيث العدد والظروف الشخصية. التشابه الوحيد أن المرأة
ستجد نفسها في المخيم: أماً، وأختاً، وأباً، وصديقاً، وكل الأدوار الأخرى من
الإعالة الى حل المشكلات.
المخيم المسوّر من كل الجهات، يسوّر بطرق أخرى أمام الجهات الحامية،
والوسائل الإعلامية التي تود اختراقه للتصوير وأخذ مقابلات شخصية مع القاطنين
هناك.
من الصعب أن تجد طفلاً يلعب بعصاً يتصورها سلاحاً وأنت تشاهده، وآخر يحاول
أن يزجي لك نصيحة متهالكة في طبيعة ما ترتديه من ملابس، ومثال ثالث لذلك المنعزل
الذي تشرب أفكاراً متطرفة تدفع به إلى رفض المجتمع ككل، وربما رفض حتى أمه ومن
يعوله.
الشعور بالزمن يلفظ أنفاسه هناك، فشروق الشمس لا يعني يوماً جديدا، بل يعني
بالضرورة أن ثمة روتيناً آخر في طريقه للمخيم، قد يكون وعداً بالخروج، أو دورة
تأهيل يحفظها حاضرها كما يحفظ اسمه، أو ضياع دقائق عمرية لمن سيدخل الثامنة عشر
وقبلها من العمر.
الأيام المتشابهة حركة هي السمة الغالبة على أم سيف التي تبحث عن كسر
روتينها اليومي الصباحي والمسائي.
الصباح يبدأ في المخيم باكراً، ترتفع أصوات اهاليه شيئاً فشيئاً، قلة هم
الباحثون عن العمل، حيث المهارات العملية لا قيمة لها في ميزان السوق هناك.
البيع والشراء المحدود هو الغالب، ومن يريد أن يتواصل هاتفياً ينبغي عليه
أن يختار الطريقة السليمة في شراء بطاقات الاتصال، أو الاستعانة بمن يراه من
المنظمات والجهات لإجراء مكالمة لا تتجاوز دقائق معدودة.
تتنوع مخاوفك هناك لا تدري ما الذي يخبئه لك الغد من تحد جديد، صحيح أنك أدركت طعامك اليومي، اما عشاءك فقد يكون مجهولا.
أم سيف تحاول جهد إمكانها أن تكون غامضة الى حد اللاوضوح يدرك من يلتقيها
أن تتعمد الأمر، لكنها ليس كذلك، فظروفها غير الطبيعية أجبرتها أن تخفي المعلوم من
حياتها ديناً ومذهباً وانتماءاً عشائريا وتفصيلات أخرى.
عدم التصريح بمعلومة مفيدة تعده أم سيف إيجابي لقناعتها ان المجتمع المضيف
لن يستقبلها بالأحضان او بأدنى درجات القبول.
وهنا تبدأ الأسئلة المعادة: ماذا عمن يعيرني؟ ماذا عن نفسية أولادي؟ هل
بالإمكان أن استخرج وثيقة رسمية فيها بيان ولادة (حسن) او حتى (يوسف)؟ لعلي سأبدأ
من الصفر حياتي، فخيمتي ها هنا في الهول ستكون معدلة بعض الشيء في الجدعة، لا
اختلاف الا في التفصيلات الجزئية.
الذاكرة القريبة البعيدة تستدعي في ظل هكذا ظروف مختار قريتي (س. ج) الذي
بدأ يرفع مبلغ أي ختم من الممكن ان يضعه فوق ورقة ضرورية وأخرى غير ضرورية.
يتعذر أحيانا على أم سيف فهم مراد المختار الذي بدأ يفكر بطريقة استفزازية
من اجل استنزافها بكل ما يستطيع.
الموافقة التي كنت أحصل عليها بـ (25 ألف دينار) أصبحت بـ (50 ألف دينار)
وحال خروج معاملتي أياً كانت الى خارج سكني فهنا عليّ ان استدين مبلغاً مرتفعا قد
يصل (200 دولار) أو يزيد.
حتى المساعدات التي تقدمها المنظمات الدولية والمحلية صارت بعيدة المنال
بحكم وضعي في خانة معينة، وعدم حاجتي لها وفق ما يدعيه المعني بالأمر.
بكل الأحوال ما تغير بكلي هو المكان، أما التصرفات والنظرات فأقل وطأة
لكنها مؤلمة.
تستدرك أم سيف وتستثني بعض الجهات العاملة على ادماجهم في المجتمع من خلال
الدورات التخصصية، والمهارات الحياتية، والمساعدة في إيجاد طريقة عمل تتناسب
ومواهب الشخص.
شباب بعمر الـ (15 عاماً) تعلموا الحلاقة، وآخرون أتقنوا مهارة تصليح
الهاتف النقال، ومجموعة جديدة تم دعمها بالمال لفتح مشروع صغير وهكذا.
نظرات مختلفة تطلقها أم سيف هذه المرة وهي تتذكر موقفاً لا تستطيع نسيانه
يتعلق باشتراط أحدهم إقامة علاقة جنسية خارج الزواج لإنجاز معاملة تتطلب ختماً
مهماً وعي عاجزة عن توفيره اليوم وغداً وحتى بعده.
لم تعد الخيمة مكاناً تتحمله أم سيف، هي تنتظر وجبة جديدة من المصرح لهم
بالخروج لتبدأ حياة جديدة هذه المرة في قريتها الأم.
هي تعلم حقاً أن المفاجآت تنتظرها، لكن المواجهة واقعة لا بد منها، وحتى
الثأر وارد، والتصفية وما بعدها.
خيمة الهول تنتقل بين سوريا ثم نينوى وهي أخيرا تحط في مسقط رأسها.. كل شيء
تغيّر: الجيران، والجدران، الأشخاص والمواقف، حتى الماء والحجر.
أدركت أم سيف أنها وصلت الختام، ونهايتها باتت قاب قوسين أو أدنى.. أصبحت
لا تأبه بالتهديدات الشخصية، لكنها تخشى على حسن ويوسف. أما سيف فلا خشية عليه فقد
لقي مصير والده في معركة تحرير الموصل.
الحاجيات الضرورية هي وحدها التي تخرجها من خيمتها في مقر منزلها المهدم
نحو طلب رزقها حتى لو كان محدوداً.
المساعدات وحدها الاغاثية جعلت أم سيف تقف على رجيلها في مواجهة الحياة
خيرا كانت أو شرّاً.
تحمل أم سيف رجليها هذه المرة الى حيث جارتها التي هي الأخرى أرملة بفعل
(أبو سيف) قبل التحرير بأشهر.
تفتح الباب وتستقبلها ببرود وضده، تتذكر زوجها وتنساه، تنظر الى اعين
اطفالها وتدير وجهها. تحاملت على نفسها مرحبة بأم سيف التي اقنعتها أنها كانت هي
متضررة، ولم توافق زوجها على ما فعل لكنها إمرأة شرقية.
تُرفع الحواجز بين أم سيف وجارتها ويدركان معاً انه لا بد من حياة قائمة
على نظام: (عفا الله عما سلف) و (لا تزر وازرة وزر أخرى).
تجلسان معاً عصر كل يوم بعد ان تهدأ حرارة الشمس لتكون قصتهم أنموذجا في
التسامح به يحتذى.
بقي أسم جديد لأم سيف وهو ولدها الرابع الذي تطوع ضمن الشرطة المحلية بعد بلوغه
الثامنة عشر من العمر ليكون عنصر ولاء للوطن يحفظ من تبقى من أبناء قريته ويرعاهم.
ملاحظة خاتمة: الولد الرابع هو العراق الذي يحتضن الجميع.
إقرأ ايضاً
- 29 October
- 29 October
- 29 October
- 29 October
- 29 October
- 29 October